علي البدر والعرض التحليلي النقدي لقصة محمد البنا "ألبقاء لله"

علي البدر والعرض التحليلي النقدي لقصة محمد البنا "ألبقاء لله"
1) ألقصة
لَمَحْتُهُ عن بعد ، بالكاد تعرفت عليه منتصبا في ضعف ، يتلقى التعازي في وفاة والدته ، عانقته بحرارة مواسيا ، ودلفت في خطى وئيدة عبر مدخل دار المناسبات ، جلست في زاوية تتيح لي رؤيته عن قرب ، كان ملتحيا في افراط ، وحبات مسبحته تنساب كقطرات ماء بين اصابعه الواهنة ، لم اره منذ احيل للتقاعد ولحقت به بعدها بعشر سنوات ، كان مديري وكنت مهندسا شابا متدينا ، عندما اصر بقسوة على ضرورة تخلصي من لحيتي ، وقتئذ اذعنت مضطرا بعدما هددني بخصم حوافزي المالية ، يفاجئني مربتا فوق كتفي الايمن
.. قيل لي عندما سالت عنك ، انك تحترف كتابة الشعر والقصة.
نحيت هاتفي الجوال جانبا ، وبدون وعي مني تحسست ذقني الحليقة وشعري المصبوغ ، همهمت وانا اتفحص عينيه اللائمتين. .. البقاء لله
(2 ألعرض التحليلي النقدي
ياترى .. "من هو الذي لمحته عن بعد"؟ ولماذا " بالكاد تعرفت عليه منتصبا في ضعف"؟ تساؤل علينا البحث عن أجوبته... أجل فقد منحنا ومضة مضيئة flash point تلزمنا على البحث واشباع حب الاستطلاع، وسرعان ما نعرف أن هذا الرجل كان مديرا يرأس " مهندساً شاباً متديناً" أجبره هذا المدير على حلق لحيته في وقتها. ودارت الأيام لتأتي المفاجأة ويحدث العكس.. رجل ملتح بافراط أمام مهندس حليق الذقن وشعر مصبوغ..
لقد اتسم النص بالتكثيف وقد غلب عليه اسلوب الراوي المتحدث باسلوب الشخص الثالث مقطوعاً بحوار مقتضب جاء بعد مراقبة موضوعية objective observation "جَلَسْتُ في زاوية تتيح لي رؤيته عن قرب..." وقد سبقها عناق " بحرارة"
وان أي رجل بمسؤولية كبيرة أو لابأس بها يخضع تماما لتعليمات السلطة التي أجلسته على مقعد متميز كمدير دائرة مرموقة مثلا. فإن كانت اللحى رمزاً لسمة دينية تشير إلى تيار قد يكون عارماً في يوم ما، فأننا نرى الحكومة مُصدِّرةً أوامرها الصارمة بوجوب حلقها وعليه فإن رؤساء الدوائر هم المسؤولون عن تنفيذ هذه الأوامر وكَأنهم ظهير جدي لقوى الأمن والأجهزة القمعية سواء رغبوا أو لم يرغبوا وذلك من أجل رواتبهم التي يعتمدون عليها في معيشتهم وبالتأكيد من أجل ألحفاظ على مناصبهم الوظيفية وخوفاً على مستقبلهم ومستقبل عوائلهم. من هنا كان ضغط المدير على موظفيه بحلق لحاهم خوفاً من انتشار حركة دينيَّة وبالتأكيد مُسَيَّسَة، وهذا حدث في مصر والعراق ومعظم الدول العربية.. وعندما أحيلَ هذا المدير الى التقاعد، أصبح ضغط السلطة وقطع الرزق احتمالاً ضعيفا ، لكن ضغطاً أخر تعاظم لديه هو ضغط تلك الأفكار التي كبتها سابقا ً لتصبح بحاجة إلى التنفيس والإشباع حيث أطلق لحيته، بينما تخلص منها المهندس صاحب اللحية لسبب قد يكون اكتشافه استغلال بعض مَن لبس ثوب الدين وسخره لمآربه الخاصة. وقد يكون في نية المدير استغلال موظفه القديم خاصة وانه محترف في " كتابة الشعر والقصة." ، فقد يكون الشاعرُ بوقاً اعلامياً لو سُخِّرَ لمآرب معينة، حيث يُتَرْجَمُ ما وراء اللحى إلى واقع ملموس حسب الأجندة الموضوعة. وقد لاحظنا أن القاص والناقد محمد البنا قد جعل المدير السابق " ملتحياً بإفراط". وكلمة "إفراط" ضرورية جدا لأنها مفتاح أو سيمياء symbol لتأريخ سيرة المدير، وعليه نفهم أن حزنه على وفاة والدته ليست له علاقة بأطلاق اللحية، لأن الإفراط يعني كثافة اللحية وبالطبع يحتاج هذا إلى فترة ليست قصيرة ، وهذا يعني انه ملتح قبل موت أمه فقد بانت لحيته كثة وبالتأكيد ان الذي يفقد شخصاً عزيزاً يطلق لحيته لأيام ثم يحلقها.. وقد وضع القاص محمد البنا كلمة " افراط" بدراية وحنكة ذكية تُحسَب له كومضة ابداع.. ومن المحتمل ايمان هذا المدير بفتاوى التطرف. ولا ينبغي إطلاق هذه الصفة على الجميع ولكن تساؤلَهُ قد يدل على نواياً مبرمجة : ".. قيل لي عندما سأَلْتُ عنك ، انك تحترفُ كتابةَ الشعر والقصة.." وكان الرد حاسماً وبلغة الإشارة أو ما تسمى بلغة الجسد body language " وبدون وعي مني تحسست ذقني الحليقة وشعريَ المصبوغ ، هَمَمْتُ وانا اتفحص عينيه اللائمتين. .. البقاء لله.".
ومرور اليدعلى الذقن ثم انتقالها لتمسح الرأس، وبالتاكيد مشوبة بنظرة استغراب أو عدم جدية، وربما نظرة استهجان ، هي إشارات للطرف الاخر بأن الطرفين مختلفان في الأهداف وطريقة الوصول إليها. وإن تَحَسُّسَ الذقن والشعر المصبوغ، يفترض أن يكون بوعيٍ كاملٍ، فلماذا أصرَّ الساردُ على أنها "... بدون وعيٍ مني تحسستُ ذقني الحليقة...."؟ إن هذه الأشارة تضفي قوة وعمقاً عامودياً للمعنى، فاللاشعور هو خزين متراكم من خبرات سلوكية وفكرية سابقة أُبْعِدَتْ عن غير قصد، أي لاشعورياً،من المجال الشعوري، لتتراكم وتؤثر في تصرفاتنا الواعية، وعليه فإن رفض التطرف وعدم الإنسياق خلفه سلوك متجذر ومتواصل أعطى خزيناً من الإصرار على السلوك الوسطي المقبول وهذا بدوره يكون فاعلاً ومؤثراً في تفاعلاتنا اليومية. وعليه فإن " وبدون وعي مني.." ماهي إلا خبرات لوعيي شعوري سابق خُزن وتجذر في اللاشعور بانتظار اليوم المناسب للتصريف. وقد جاءت لصالح النص وزادت من عمق ثيمته بل هي قفلة رائعة. وإن مَسْحَ الذقن والشعر المصبوغ أثمرت عن عينين " لائمتين. ". أما جملة: " البقاء لله" فهي جملةٌ مواساة رائعةٌ تُقال في المناسبات الحزينة . وكتحصيل حاصل.. على الملتحي أن يحزن مرتين. الأولى تعبير عن حزنِه لموت أمِّهِ، أما الثانية فهي عن فقده مَن يَوَدُّ أن يكون بوقاً إعلامياً إليه، وفي كل الأمور لابد أن يكون البقاء لله.
ألقاص والناقد الأستاذ محمد البنا... تحياتي ودمت بيننا ألِقاً أبداً..
علي البدر/ قاص وناقد
تعليقات
إرسال تعليق