"ألى متى نبقى على التل؟" قصة قصيرة ل القاص والناقد أ.علي البدر
"ألى متى نبقى على التل؟" قصة قصيرة
علي البدر
خطواتٌ تتسارعُ وعيونٌ لا تُحصى . أضوية حمراء وخضراء وأرصفة ممتدة وبلاط تميز بلونه ونقشته وبدا رجل من بعيد ماسكاً عصاً تتحرك بنصف قوس يمينا وشمالاً، ينحرف مع مسارات البلاط معتمداً على نقشته. ها هو ينحرف يميناً. يد امرأة تساعده على الإنحراف. سأل فأجبته بلغته التي فهمت أقل من نصفها. تعال معي.. لحظات وأصبحنا وسط خلية بشرية بدت وكأنها تسير من غير هدىً. أرصفة مرقمة ولوحات إعلانات تتوزع عليها وأخرى ضوئية أمامنا. شكرني وصعد وبقيت منتظراً دوري. ست دقائق فقط ويأتي. ردت عليً بابتسامة وهي تنظر لحاسبة صغيرة بيدها . عليك ياسيدي الإنتقال للرصب B. ساعة أثرية وسط سقوف فولاذية بدت وكأنها بنيت زمن الحرب العالمية الثانية. ها هو قد وصل. لم نتعود على نظام دقيق يَحتَرِمُ، لا أقول ساعاتِ الزمن أو دقائقه، بل ثوانيه. أيمكن أن يكون الوقت مقدساً لهذه الدرجة؟ ُثوانٍ أرجعتني عقوداً. ها هو أمامي وأنا اتصفح كلماته صارخةً " أيها الشباب.. أتقضون الوقت بلعب الدومنو وشرب الأركيلة؟ أهكذا تذهب ساعات الزمن سدىً؟". ويأتي الجواب سريعاً وبنغمة واحدة " متخفش يبيه.. حنّه بنلعب ببلاش".
سنون مضت وعذاباته لم تفارقني أبداً. ياترى ! هل سبق سلامة موسى زمانه؟ ذلك الرجل الذي نادي بضرورة وجود المرافق الصحية في كل بيت في الأرياف، فأصبح عرضة للسخرية وتحول اسمه في بعض الصحف إلى سلامة موسى المراحيضي. وها أنا أطوي صفحات كتاب ساهم في تغيير مجرى حياتي، وأنا شاب يافع مليء بالطموح. صفحات رافقتني وأنا أحمل فراشي على ظهر سيارة تكدَّس داخلها بعض الفلاحين الراجعين لقراهم وهم يتفحصون معلمهم الجديد بود وإعجاب متطلعين لبدلته الأنيقة وربطة العنق التي تساوى لونُها مع الأتربة المتطايرة لأكثر من ساعة. ماذا أعمل في ليل حالك الظلام بلا ماء نقي أو كهرباء أو تأمين صحي في غرف من طين تسمى صفوفاً، في وطن نحفر أرضه من أجل الماء، يتدفق النفط؟ صرائف تتوزع هنا وهناك. " أين المرحاض؟" أحبتي ، أصدقائي أين المرحاض؟ سألتُ المعلمين المتحلقين حول فانوس نفطي منشغلين بلعب الورق وأنا أحمل إبريقاً معدنياً؟ ضحك الجميع لسؤالي .
- في الخارج يا استاااذ! قال أحدهم.
- بحثت داخل المدرسة وخارجها فلم أجده!
- أرضُ الله واسعة يا استاذ..وأرجوك أن لا تسأل ثانية أو يسمعك أحد الفلاحين. ولم أستغرب لتهكمهم لكن صدى صفحات " طريق المجد للشباب" يرن في أعماقي.
ولم يكنْ لعرباته اهتزازٌ مزعجٌ أو لعجلاته أصواتٌ تتعبنا، فكل شيء فيه مبرمجٌ . عربةٌ محجوزة أو شاغرة. الحركة والتوقف عبر نداء لا يفارقنا، يعطي الآستقرار والإرتياح لكن سرعة نبراته تجبرني على طلب المساعدة من ابنتي التي تفهم لغتهم بطلاقة. مقاعد ممتدة وأرضية نظيفة ومسافرون مشغولون. هذا مشغول بهاتفه النقال وهذه مركزة على شاشة حاسبتها وإثنان يتحدثان بصوت خافت وفي الطرف الآخر بدت امرأة عجوز تنظر إلي بفضول، ابتسمت خافظة رأسها مرحبة. نداءٌ بالتهيؤ بدا صداه في كل زاوية. توقف البعض أمام الباب. فُتِحَتت ونزلوا ليصعد أخرون.. كل هذا بأقل من دقيقة، تستمر الابنيةُ بالتلاشي ثانية.
- ما بك يا أبي؟
- لا شيء يا ابنتي.
- لم أفهم حسراتِك يا أبي..
- إعلمي أن قطار البصرة - بغداد يسير بنفس سرعته قبل ستة عقود وأكثر. خمسون كيلو متر في الساعة؟
نَظَرَتْ إليّ باستغراب وهي تساعدني بحمل حقيبتي، عندما ابتعد عنا بكل خفة وهدوء. تلاقت نظراتنا. توقفتْ برهة. حاولتُ مساعدتها، لكنها رفضت بإصرار لتستمر بسحبها مسرعة. ياترى... أيكون مسروراً لو نهض من سباته أم يفضل تمزيق كتابه لينام في غفوة وألى الأبد؟ تساؤل بحاجة لأجابة. وعندما يراني حاملاً إبريقي بين الأحراش سيكون عتابُه قاسياً علينا هذه المرة..
- أمرٌ غريب والله.
- أجل يا ابنتي.. مجردُ ماضٍ. بدلاً من مغادرته لنا، نحن الذين نذهب إليه.
علي البدر/ قاص وناقد
نشر Ali منشورين حديثين في هذه المجموعة.
تعليقات
إرسال تعليق